فصل: تفسير الآية رقم (26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


الجزء السادس

سورة النور

وهي مدنية كلُّها باجماعهم‏.‏

روى أبو عبدالله الحاكم في «صحيحه» من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَف ولا تُعَلمِّوهُنَّ الكتابة، وعلِّمُوهنَّ المغْزَل وُسورة النُّور»، يعني‏:‏ النساء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجلَّ‏:‏ ‏{‏سُورة‏}‏ قرأ الجمهور بالرفع‏.‏ وقرأ أبو رزين العقبلي، وابن أبي عبلة، ومحبوب عن أبي عمرو‏:‏ ‏{‏سورةً‏}‏ بالنصب‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ من رفع، فعلى الابتداء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذا قبيح، لأنها نكرة، و‏{‏أنزلْناها‏}‏ صفة لها، وإِنما الرفع على إِضمار‏:‏ هذه سُورةٌ، والنصب على وجهين، أحدهما على معنى‏:‏ أنزلنا سورةً، وعلى معنى‏:‏ أُتلُ سُورةً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفرضناها‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتشديد، وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وعكرمة، والضحاك، والزهري، ونافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة بالتخفيف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من قرأ بالتشديد، فعلى وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ على معنى التكثير، أي‏:‏ إِننا فرضنا فيها فروضاً‏.‏

والثاني‏:‏ على معنى‏:‏ بيَّنَّا وفصَّلنا ما فيها من الحلال والحرام؛ ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه‏:‏ ألزمناكم العمل بما فُرض فيها‏.‏ وقال غيره‏:‏ مَنْ شدَّد، أراد‏:‏ فصَّلنا فرائضها، ومَنْ خفَّف، فمعناه‏:‏ فرضنا ما فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانيةُ والزاني‏}‏ القراءة المشهورة بالرفع‏.‏ وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر‏:‏ ‏{‏الزانيةَ‏}‏ بالنصب‏.‏ واختار الخليل وسيبويه الرفع اختيار الأكثرين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والرفع أقوى في العربية، لأن معناه‏:‏ من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء، ويجوز النصب على معنى‏:‏ اجلدوا الزانية‏.‏ فأما الجَلْد، فهو ضرب الجِلْد؛ يقال‏:‏ جَلَدَه‏:‏ إِذا ضرب جِلْده، كما يقال‏:‏ بَطَنَه‏:‏ إِذا ضَرَب بَطْنه‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ الزانية والزاني إِذا كانا حُرّين بالغَين بِكْرَيْن، ‏{‏فاجلِدوا كُلَّ واحد منهما مائة جَلْدة‏}‏‏.‏

فصل

قال شيخنا علي بن عبيد الله‏:‏ هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْدِ على البِكْر والثَّيّب‏.‏ وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق البِكْر زيادة على الجَلْد بتغريب عام، وفي حق الثَّيِّب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة‏.‏ فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «البِكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائة ورجم بالحجارة» وممن قال بوجوب النَّفي في حق البِكْر أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاووس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثَّيِّب عليُّ بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإِسحاق‏.‏ قال‏:‏ وذهب قوم من العلماء إِلى أن المراد بالجَلْد المذكور في هذه الآية‏:‏ البِكْر، فأما الثَّيِّب، فلا يجب عليه الجَلْد، وإِنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي، والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَأْخُذْكُمْ‏}‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والضحاك، وابن يعمر، والأعمش‏:‏ ‏{‏يَأْخُذْكُمْ‏}‏ بالياء، ‏{‏بهما رأفةُ‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏رَأْفَةٌ‏}‏ باسكان الهمزة‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، ومجاهد، وأبو عمران الجوني، وابن كثير‏:‏ بفتح الهمزة وقصرها على وزن رَعَفَة‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، والضحاك، وأبو رجاء العطاردي‏:‏ ‏{‏رآفَةٌ‏}‏ مثل سآمة وكآبة‏.‏

وفي معنى الكلام قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ لا تأخذكم بهما رأفة، فتخفِّفوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب، والحسن، والزهري، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ لا تأخذكم بهما رأفة فتعطِّلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد، والشعبي، وابن زبد في آخرين‏.‏

فصل

واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري‏:‏ ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف‏.‏ وقال مالك‏:‏ الضرب في الحدود كلِّها سواءٌ غير مبرِّح‏.‏

فصل

فأما ما يُضرَب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جَلْد الزاني، قال‏:‏ يجرَّد، ويعطى كل عضو حقَّه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه‏.‏ ونقل يعقوب ابن بختان‏:‏ لا يُضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يُضرب إِلا في الظَّهر‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يُتَّقى الفرج والوجه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في دين الله‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ في حُكمه، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ في طاعة الله، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولْيَشْهَدْ عذابَهُما طائفة من المؤمنين‏}‏ قال الزجاج‏:‏ القراءة باسكان اللام، ويجوز كسرها‏.‏ والمراد بعذابهما ضربهما‏.‏

وفي المراد بالطائفة هاهنا خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏ وقال النخعي‏:‏ الواحد طائفة‏.‏

والثاني‏:‏ الاثنان فصاعداً، قاله سعيد بن جبير، وعطاء؛ وعن عكرمة كالقولين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان‏.‏

والثالث‏:‏ ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري‏.‏

والرابع‏:‏ أربعة، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ عشرة، قاله الحسن البصري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزاني لا يَنْكِحُ إِلاّ زانيةً‏}‏ قال عبد الله بن عمرو‏:‏ كانت امرأة تسافح، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في بغايا، كُنَّ بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية‏:‏ المواخير، ولا يدخل عليهن إِلا زانٍ من أهل القِبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية‏.‏

قال المفسرون‏:‏ ومعنى الآية‏:‏ الزاني من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إِلا زانية ‏{‏أو مشركة‏}‏ لأنهن كذلك كن ‏{‏والزانية‏}‏ منهن ‏{‏لا ينكحها إِلا زانٍ أو مشرك‏}‏، ومذهب أصحابنا أنه إِذا زنى بامرأة لم يجز له أن يتزوجها إِلا بعد التوبة منهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحُرِّمَ ذلك‏}‏ وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏وحَرَّمَ اللّهُ ذلك‏}‏ بزيادة اسم الله عز وجل مع فتح حروف ‏{‏حَرَّمَ‏}‏‏.‏ وقرأ زيد بن علي ‏{‏وحَرُمَ ذلك‏}‏ بفتح الحاء وضم الراء مخففة‏.‏ ثم فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه نكاح الزواني، قاله مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ الزنا‏:‏ قاله الفراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المُحْصَنات‏}‏ شرائط الإِحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة‏:‏ البلوغ، والحرية، والعقل، والوطء في نكاح صحيح‏.‏ فأما الإِسلام فليس بشرط في الإِحصان، خلافا لأبي حنيفة، ومالك‏.‏ وأما شرائط إِحصان القذف فأربع‏:‏ الحرية، والإِسلام، والعِفَّة، وأن يكون المقذوف ممن يجامِع مثله‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ يرمون المحصنات بالزنا، فاكتفى بذكره المتقدِّم عن إِعادته، ‏{‏ثم لم يأتوا‏}‏ على على ما رمَوْهُنَّ به ‏{‏بأربعة شهداء‏}‏ عدول يشهدون أنهم رأوهنَّ يفعلْنَ ذلك، ‏{‏فاجلِدوهم‏}‏ يعني القاذفين‏.‏

فصل

وقد أفادت هذه الآية أنَّ على القاذف إِذا لم يُقم البيِّنة الحدَّ وردَّ الشهادة وثبوتَ الفِسْق‏.‏ واختلفوا هل يُحكَم بفسقه وردِّ شهادته بنفس القذف، أم بالحدِّ‏؟‏ فعلى قول أصحابنا‏:‏ إِنه يُحكم بفسقه وردِّ شهادته إِذا لم يُقم البيِّنة، وهو قول الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة، ومالك‏:‏ لا يُحكم بفسقه، وتقبل شهادته مالم يُقَم الحدُّ عليه‏.‏

فصل

والتعريض بالقذف- كقوله لمن يخاصمه‏:‏ ما أنت بزانٍ، ولا أُمُّك زانية- يوجب الحدَّ في المشهور من مذهبنا‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يوجب الحدَّ‏.‏ وحدٌّ العبد في القذف نصف حدِّ الحُرِّ، وهو أربعون، قاله الجماعة، إِلا الأوزاعي، فانه قال‏:‏ ثمانون‏.‏ فأما قاذف المجنون، فقال الجماعة‏:‏ لا يُحَدُّ‏.‏ وقال الليث‏:‏ يُحَدُّ‏.‏ فأما الصبيّ، فان كان مثله يجامِع أو كانت صبيِّة مثلُها يجامَع، فعلى القاذف الحدُّ‏.‏ وقال مالك‏:‏ يُحدُّ قاذف الصبيَّة التي يجامَع مثلُها، ولا يُحَدُّ قاذف الصبيّ‏.‏ وقال أبو حنيفه، والشافعي‏:‏ لا يُحَدُّ قاذفهما‏.‏ فان قذف رجلٌ جماعةً بكلمة واحدة، فعليه حدٌّ واحد، وإِن أفرد كلَّ واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حدّ‏.‏ وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ عليه حدّ واحد، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات‏.‏

فصل

وحدُّ القذف حقٌّ لآدمي، يصح أن يبرئ منه، ويعفو عنه، وقال أبو حنيفة‏:‏ هو حق لله‏.‏ وعندنا ‏[‏أنه‏]‏ لا يستوفى إِلا بمطالبة المقذوف، وهو قول الأكثرين‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ يحدُّه الإِمام وإِن لم يطالِب المقذوف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا الذين تابوا‏}‏ أي‏:‏ من القذف ‏{‏وأصلحوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أظهروا التوبة؛ وقال غيره‏:‏ لم يعودوا إِلى قذف المُحْصنَات‏.‏

وفي هذا الإِستثناء قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه نسخ حدِّ القذف وإِسقاط الشهادة معاً، وهذا قول عكرمة، والشعبي، وطاووس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، والزهري، والشافعي، وأحمد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يعود إِلى الفسق فقط، وأما الشهادة، فلا تُقْبَل أبداً، قاله الحسن، وشريح، وإِبراهيم، وقتادة‏.‏ فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏؛ وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح، لأن المتكلِّم بالفاحشة، لا يكون أعظم جرماً من راكبها، فإذا قُبلت شهادةُ المقذوف بعد ثبوته، فالرامي أيسر جرماً، وليس القاذف بأشدَّ جرماً من الكافر، فإنه إِذا أسلم قُبلت شهادتُه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يَرْمُون أزواجهم‏}‏ سبب نزولها ‏"‏ أن هلال بن أُمية وجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يُهجْه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ إِنِّي جئت أهلي، فوجدت عندها رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتد عليه، فقال سعد بن عبادة‏:‏ الآن يَضْرِبُ رسولُ الله هلالاً ويُبطل شهادته، فقال هلال‏:‏ والله إِنِّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً، فوالله إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ‏[‏إِذ‏]‏ نزل عليه الوحي، فنزلت هذه الآية ‏"‏، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ وفي حديث آخر ‏"‏ أن الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهلال حين قذفها‏:‏ «ائتني بأربعة شهداء، وإِلا فحدٌّ في ظهرك»، فنزلت هذه الآية ‏"‏، فنُسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف‏.‏

فصل

في بيان حكم الآية

إِذا قذف الرجل زوجته بالزنا، لزمه الحدُّ، وله التخلُّص منه باقامة البيِّنة، أو باللِّعان، فإن أقام البيِّنة لزمها الحدّ، وإِن لاعنها، فقد حقَّق عليها الزنا، ولها التخلُّص منه باللّعان؛ فإن نكل الزوج عن اللعان، فعليه حدُّ القذف، وإِن نكلت الزوجة، لم تحدّ، وحُبست حتى تُلاعِن أو تُقِرَّ بالزنا في إِحدى الروايتين، وفي الأخرى‏:‏ يُخلَّى سبيلُها‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يُحَدُّ واحد منهما، ويُحبس حتى يُلاعِن‏.‏ وقال مالك، والشافعي‏:‏ يجب الحدُّ على الناكل منهما‏.‏

فصل

ولا تصح الملاعنة إِلا بحضرة الحاكم‏.‏ فان كانت المرأة خَفِرة، بعث الحاكم من يُلاعِن بينهما‏.‏ وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول‏:‏ أشهد بالله إِني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا، أربع مرات، ثم يقول في الخامسة‏:‏ ولعنة الله عليه إِن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع مرات‏:‏ أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول‏:‏ وغضب الله عليها إِن كان من الصادقين‏.‏ والسُّنة أن يتلاعنا قياماً، ويقال للزوج إِذا بلغ اللعنة‏:‏ اتق الله فانها المُوجِبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إِذا بلغت إِلى الغضب‏.‏ فإن كان بينهما ولد، اقتصر نفيه عن الأب إِلى ذِكْره في اللعان، فيزيد في الشهادة‏:‏ وما هذا الولد ولدي، وتزيد هي‏:‏ وإِن ‏[‏هذا‏]‏ الولد ولده‏.‏

فصل

واختلف الفقهاء في الزوجين اللَّذين يجري بينهما اللعان، فالمشهور عن أحمد أن كل زوج صح قذفه صح لعانه، فيدخل تحت هذا المسلمُ والكافر والحرُّ والعبد، وكذلك المرأة، وهذا قول مالك، والشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز اللعان بين الحرِّ والأمَةَ، ولا بين العبد والحرة، ولا بين الذميَّين، أو إِذا كان أحدهما ذميّاً؛ ونقل حرب عن أحمد نحو هذا، والمذهب هو الأول‏.‏

ولا تختلف الرواية عن أحمد‏:‏ أن فُرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده‏.‏ واختلف هل تقع بلعانهما من غير فُرقة الحاكم على روايتين‏.‏ وتحريم اللعان مؤبَّد، فان أكذب الملاعنُ نفسه لم تحلَّ له زوجته أيضاً، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود؛ وعن أحمد روايتان، أصحهما‏:‏ هذا، والثانية‏:‏ يجتمعان بعد التكذيب، وهو قول أبي حنيفة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يكن لهم شهداء إِلا أنفسُهم‏}‏ وقرأ أبو المتوكل‏.‏ وابن يعمر، والنخعي‏:‏ «تكن» بالتاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏أربعَ‏}‏ بفتح العين‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ برفع العين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ من رفع ‏{‏أربعُ‏}‏، فالمعنى‏:‏ فشهادة أحدهم التي تدرأُ حَدَّ القذف أربعُ؛ ومن نصب، فالمعنى‏:‏ فعليهم أن يشهد أحدهم أربعَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخامسةُ‏}‏ قرأ حفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏والخامسةَ‏}‏ نصباً، حملاً على نصب ‏{‏أربعَ شهادات‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنَّ لعنة الله عليه‏}‏ قرأ نافع، ويعقوب، والمفضل‏:‏ ‏{‏أنْ لعنةُ الله‏}‏ و‏{‏أنْ غضبُ الله‏}‏ بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من ‏{‏لعنةُ‏}‏ والباء من ‏{‏غضبُ‏}‏، إِلا أن نافعاً كسر الضاد من ‏{‏غَضِبَ‏}‏ وفتح الباء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَدرأُ عنها‏}‏ أي‏:‏ ويَدفع عنها ‏{‏العذابَ‏}‏ وفيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ ‏[‏أنه‏]‏ الحَدُّ‏.‏

والثاني‏:‏ الحبس‏.‏ ذكرهما ابن جرير‏.‏

والثالث‏:‏ العار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه‏}‏ أي‏:‏ ستره ونعمته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وجواب «لولا» هاهنا متروك؛ والمعنى‏:‏ لولا ذلك لنال الكاذبَ منكم عذابٌ عظيم‏.‏ وقال غيره‏:‏ لولا فضل الله لبيّن الكاذب من الزوجين فأُقيم عليه الحدّ، ‏{‏وأن الله توّاب‏}‏ يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة ‏{‏حكيم‏}‏ فيما فرض من الحدود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 20‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين جاؤوا بالإفك‏}‏ أجمع المفسرون أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها‏.‏ نزلت في قصة عائشة، وفي حديث الإِفك أن هذه الآية إِلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة‏.‏ وقد ذكرنا حديث الإِفك في كتاب الحدائق وفي كتاب المغني في التفسير فلم نطل بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب، ليحفظ فأما الإِفك فهو الكذب والعصبة‏:‏ الجماعة، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏مِنْكُم‏}‏ أي‏:‏ من المؤمنين‏.‏ وروى عروة عن عائشة أنها قالت‏:‏ هم أربعة حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَحسَبُوه شَراً لَكُم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل‏:‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة‏.‏ والمعنى‏:‏ إٍنكم تؤجرون فيه‏.‏ ‏{‏لِكلِ امرئ مِنهُم‏}‏ يعني‏:‏ من العصبة الكاذبة ‏{‏مَا اكتَسَبَ مِنَ الإِثم‏}‏ أي جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه، ‏{‏والذي تَوَلَى كِبْره منهم‏}‏ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد وابن أبي عبلة، والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو، ويعقوب‏:‏ ‏{‏كُبْره‏}‏ بضم الكاف‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وهما لغتان‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ كِبْر الشيء‏:‏ معظمه، ومنه هذه الآية‏.‏ قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة‏:‏

تنام عن كبر شأنها فإذا *** قامت رويدا تكاد تنغرف

وفي المتولي لذلك قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه عبد الله بن أبي، رواه أبو صالح عن ابن عباس وعروة عن عائشة، وبه قال مجاهد والسدي ومقاتل‏.‏ قال المفسرون‏:‏ هو الذي أشاع الحديث فله عذاب عظيم بالنار، وقال الضحاك‏:‏ هو الذي بدأ بذلك‏.‏

والثاني‏:‏ أنه حسان، روى الشعبي‏:‏ أن عائشة قالت‏:‏ ما سمعت أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة، فقيل‏:‏ يا أم المؤمنين، أليس الله يقول‏:‏ ‏{‏والذي تَولى كِبْره منهم له عَذاب ٌ عَظِيم‏}‏ فقالت‏:‏ أليس قد ذهب بصره‏؟‏ وروى عنها مسروق أنها قالت‏:‏ وأي عذاب أشد من العمى، ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم، ذهاب بصره، تعني‏:‏ حسان بن ثابت‏.‏

ثم إن الله عز وجل أنكر على الخائضين في الإفك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا إِذْ سَمِعتُمُوهُ‏}‏ أي‏:‏ هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ‏{‏ظَنَ المُؤمِنُون‏}‏ من العصبة الكاذبة وهم حسان ومسطح ‏{‏والمُؤمِنَاتِ‏}‏ وهي حمنة بنت جحش ‏{‏بِأنُفسِهِم‏}‏ وفيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ بأمهاتهم‏.‏

والثاني‏:‏ بأخواتهم‏.‏

والثالث‏:‏ بأهل دينهم، لان المؤمنين كنفس واحدة، ‏{‏وقَالُوا هذا إِفكٌ مُبِين‏}‏ أي‏:‏ كذب بيِّن‏.‏ وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه‏:‏ ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة فقال‏:‏ هذا إفك مبين، أكنت يا أماه فاعلته قالت‏:‏ معاذ الله قال‏:‏ فعائشة والله خير منك فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا جَاؤوا‏}‏ أي‏:‏ هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة ‏{‏بِأَرَبعةِ شهداء‏}‏ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري‏:‏ بأربعة منونة؛ والمعنى‏:‏ يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به، ‏{‏فإذا لم يَأتُوا بالشُهَدَاءِ فَأُولَئِك عِندَ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ في حكمه ‏{‏هم الكاذبون‏}‏ ثم ذكر القاذفين فقال‏:‏ ‏{‏ولولا فَضلُ اللهِ عليكُم ورَحمَته‏}‏ أي‏:‏ لولا ما منَّ ‏[‏الله‏]‏ به عليكم ‏{‏لمسَّكم‏}‏ أي‏:‏ لأصابكم ‏{‏فيما أفضتم‏}‏ أي‏:‏ أخذتم وخضتم ‏{‏فيه‏}‏ من الكذب والقذف ‏{‏عذاب عظيم‏}‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال‏:‏ ‏{‏إذ تَلقَّونَهُ‏}‏ وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول‏:‏ بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏إذ تُلْقونه‏}‏ بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة‏.‏ وقرأ معاوية وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏تَتَلَقَّونه‏}‏ بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف‏.‏ وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة‏:‏ ‏{‏تَلِقُونه‏}‏ بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تُلْقونه يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه؛ ومعناه‏:‏ إذ تسرعون بالكذب، يقال‏:‏ ولق يلق‏:‏ إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر‏:‏

جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّامْ تلق *** أي‏:‏ تسرع، وقال ابن قتيبة‏:‏ ‏{‏تَلَقَّوْنَهُ‏}‏ أي‏:‏ تقبلونه، ومن قرأ‏:‏ ‏{‏تَلِقونَهُ‏}‏ أخذه من الولق، وهو الكذب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم‏}‏ أي‏:‏ من غير أن تعلموا أنه حق، وتحسبونه، يعني ذلك القذف ‏{‏هَيناً‏}‏ أي‏:‏ سهلا لا إثم فيه، وهو عند الله عظيم في الوزر، ثم زاد عليهم في الإنكار فقال‏:‏ ‏{‏ولولا إذ سَمِعتُمُوهُ قُلتُم مَا يَكُونُ لنا‏}‏ أي‏:‏ ما يحل وما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا سبحانك، وهو يحتمل التنزيه والتعجب‏.‏ وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له‏:‏ ألم تسمع ما يتحدث الناس‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏ما يكونُ لنا ان نَتَكَلَم بهذا‏}‏ الآية فنزلت الآية‏.‏ وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير‏:‏ أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال‏:‏ سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏ فقيل للناس‏:‏ هلا قلتم كما قال سعد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِظكمُ اللهُ‏}‏ أي‏:‏ ينهاكم الله أن تعودوا لمثله أي‏:‏ إلى مثله إن كنتم مؤمنين، لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة، ‏{‏ويُبيِنُ اللهُ لَكمُ الآياتِ‏}‏ في الأمر والنهى‏.‏

ثم هدد القاذفين بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذينَ يُحِبُونَ أن تشيعَ الفَاحِشَة‏}‏ أي‏:‏ يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة وهي الزنا ‏{‏في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عذابٌ أليمٌ فِي الدُنيا‏}‏ يعني‏:‏ الجلد ‏{‏والآخرة‏}‏ عذاب النار وروت عمرة عن عائشة قالت‏:‏ لما نزل عذري، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم، وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد عبد الله بن ابي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، فأما الثلاثة فتابوا وأما عبد الله فمات منافقا‏.‏ وبعض العلماء ينكر صحة هذا ويقول لم يضرب أحدا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللهُ يَعلمُ‏}‏ شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله ‏{‏وأنتُم لا تَعلمُون‏}‏ ذلك ‏{‏ولولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم‏}‏ جوابه محذوف تقديره لعاقبكم فيما قلتم لعائشة‏.‏ قال ابن عباس يريد مسطحا وحسان وحمنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَتَبِعُوا خُطُواتِ الشَيطان‏}‏ أي‏:‏ تزيينه لكم قذف عائشة‏.‏ وقد سبق شرح ‏{‏خطوات الشيطان‏}‏ وبيان ‏{‏الفحشاء والمنكر‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما زَكَى مِنكم‏}‏ وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة‏:‏ ما زكَّى بتشديد الكاف‏.‏

وفيمن خوطب بهذا قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه عام في الخلق‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خاص للمتكلمين في الإفك‏.‏ ثم في معناه أربعة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ ما اهتدى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ ما أسلم، قاله ابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ ما صلح، قاله مقاتل‏.‏

والرابع‏:‏ ما طهر، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنَّ الله يُزكي مَن يَشاء‏}‏ أي‏:‏ يطهر من يشاء من الإثم بالتوبة والغفران، فالمعنى‏:‏ وقد شئت ان أتوب عليكم، ‏{‏واللهُ سَمِيعٌ عَلِيم‏}‏ علم ما في نفوسكم من التوبة والندامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتلِ‏}‏ وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏ولا يتألَّ‏}‏ بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يَتَعلَّ‏.‏ قال المفسرون‏:‏ سبب نزولها أن أبا بكر الصديق، كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره، فلما خاض في أمر عائشة، قال أبو بكر‏:‏ والله لا أنفق عليه ‏[‏شيئا‏]‏ أبداً، فنزلت هذه الآية‏.‏ فأما الفضل، فقال أبو عبيدة‏:‏ هو التفضل والسعة‏:‏ الجِدةْ‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمراد به‏:‏ أبو بكر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يؤتوا‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ معناه‏:‏ أن لا يؤتوا، فحذف ‏{‏لا‏}‏ فأما قوله أولي القربى، فانه يعنى مسطحا، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان مسكيناً وكان مهاجراً‏.‏ قال المفسرون‏:‏ فلما سمع أبو بكر‏:‏ ‏{‏ألا تحبّون أن يغفر الله لكم‏}‏ قال‏:‏ بلى يا رب وأعاد نفقته على مسطح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يرمون المحصنات‏}‏ يعني‏:‏ العفائف ‏{‏الغافلات‏}‏ عن الفواحش، ‏{‏لعنوا في الدنيا‏}‏ أي‏:‏ عذبوا بالجلد، وفي الآخرة بالنار‏.‏

واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ انها نزلت في عائشة خاصة‏.‏ قال خصيف‏:‏ سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية، فقلت‏:‏ من قذف محصنة لعنه الله‏؟‏ قال‏:‏ لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ أنها في المهاجرات‏.‏ قال أبو حمزة الثمالي‏:‏ بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا‏:‏ إنما خرجت تفجر فنزلت هذه الآية‏.‏

والرابع‏:‏ أنها عامة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد‏.‏

فان قيل‏:‏ لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال‏؟‏

فالجواب‏:‏ ‏[‏أن‏]‏ من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين ومثله‏:‏ ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ أراد والبرد، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تشهد عليهم السنتهم‏}‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ يشهد بالياء، وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية‏.‏ قال ابو سليمان الدمشقي‏:‏ وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم، وقال ابن جرير‏:‏ المعنى‏:‏ ان ألسنة بعضهم تشهد على بعض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‏}‏ أي‏:‏ حسابهم العدل، وقيل‏:‏ جزاءهم الواجب‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش‏:‏ دينهم الحقُ برفع القاف ‏{‏ويعلمون أن الله هو الحق المبين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك ان عبد الله بن ابي، كان يشك في الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الخبيثات للخبيثين‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء‏.‏

والثاني‏:‏ الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات‏.‏

والثالث‏:‏ الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والطيبات من النساء للطيبين من الرجال‏.‏

والرابع‏:‏ الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال، وكذلك الطيبات‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ يعني‏:‏ عائشة وصفوان ‏{‏مبرؤون‏}‏ أي‏:‏ منزهون ‏{‏مما يقولون‏}‏ من الفرية ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ لذنوبهم ‏{‏ورزق كريم‏}‏ في الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله، إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية‏.‏ فقال ابو بكر بعد نزولها‏:‏ يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة‏}‏ الآية‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ أي‏:‏ بيوتاً ليست لكم‏.‏ واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها وبعضهم بكسرها، وقد بينا ذلك في ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تستأنسوا‏}‏ قال الفراء‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ حتى تسلموا وتستأنسوا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏وتستأنسوا‏}‏ في اللغة بمعنى‏:‏ تستأذنوا وكذلك هو في التفسير، والاستئذان‏:‏ الاستعلام، تقول‏:‏ آذنته بكذا، أي‏:‏ أعلمته، وآنست منه كذا، أي‏:‏ علمت منه، ومثله‏:‏ ‏{‏فان آنستم منهم رشداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ علمتم‏.‏ فمعنى الآية‏:‏ حتى تستعلموا، يريد أهلها ان تدخلوا ام لا‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وصفة الاستعلام أن تقول‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏ ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان لهذه الآية، ‏{‏ذلكم خير لكم‏}‏ من أن تدخلوا بغير إذن ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد‏؟‏ قال‏:‏ أيسرُّكَ أن ترى منهن عورة، قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فاستأذن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان لم تجدوا فيها احداً‏}‏ أي‏:‏ إن وجدتموها خالية، ‏{‏فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا‏}‏ أي‏:‏ إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، ‏{‏هو أزكى لكم‏}‏ يعني‏:‏ الرجوع خير لكم وأفضل ‏{‏والله بما تعملون‏}‏ من الدخول باذن وغير إذن ‏{‏عليم‏}‏‏.‏

فصل

وهل هذه الآية منسوخة أم لا‏؟‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن حكمها عام في جميع البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة‏}‏ هذا مروي عن الحسن، وعكرمة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فاذا بطل الاستئذان لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة‏}‏ فيها خمسة اقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها الخانات والبيوت المبنية للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم، قاله قتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها البيوت الخربة، والمتاع‏:‏ قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء‏.‏

والثالث‏:‏ أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية‏.‏

والرابع‏:‏ حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد‏.‏

والخامس‏:‏ أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن، قاله ابن جريج‏.‏

فيخرّج في معنى ‏{‏المتاع‏}‏ ثلاثة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ الأمتعة التي تباع وتشترى‏.‏

والثاني‏:‏ إلقاء الأذى من الغائط والبول‏.‏

والثالث‏:‏ الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحر والبرد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏}‏ في ‏{‏من‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها صلة‏.‏

والثاني‏:‏ أنها أصل، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما لا يحلُّ‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ عما لا يحل لهم، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ عن أن تُرى، فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية وابن زيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الغض وحفظ الفروج ‏{‏أزكى لهم‏}‏ أي‏:‏ خير وأفضل ‏{‏إن الله خبير بما يصنعون‏}‏ في الأبصار والفروج ثم امر النساء بما امر به الرجال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ أي‏:‏ لا يظهرنها لغير مَحْرَم‏.‏ وزينتهن على ضربين، خفية كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهرةٌ وهي المشار إليها بقوله ‏{‏إلا ما ظهر منها‏}‏ وفيه سبعة أقوال‏.‏

أحدهما‏:‏ انها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر قال هو الرداء‏.‏

والثاني‏:‏ أنها الكف والخاتم والوجه‏.‏

والثالث‏:‏ الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والرابع‏:‏ القُلْبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة‏.‏

والخامس‏:‏ الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد‏.‏

والسادس‏:‏ الخاتم والسوار، قاله الحسن‏.‏

والسابع‏:‏ الوجه والكفان، قاله الضحاك‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ والقول الاول أشبه، وقد نص عليه احمد، فقال‏:‏ الزينة الظاهرة‏:‏ الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فان كان لعذر مثل ان يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فانه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها بغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن‏.‏

فان قيل‏:‏ فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها‏.‏

فالجواب‏:‏ أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن‏}‏ وهي جمع خِمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، والمعنى‏:‏ وليُلْقِين مَقانِعَهن ‏{‏على جيوبهن‏}‏ ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش‏:‏ ‏{‏على جِيوبهن‏}‏ بكسر الجيم، ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ يعني‏:‏ الخفية وقد سبق بيانها ‏{‏إلا لبعولتهن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو نسائهن‏}‏ يعني‏:‏ المسلمات‏.‏ قال أحمد‏:‏ لا يحل للمسلمة ان تكشف راسها عند نساء أهل الذمة، واليهودية والنصرانية لا تقبِّلان المسلمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ قال اصحابنا‏:‏ المراد به‏:‏ الإماء دون العبيد‏.‏ وقال أصحاب الشافعي‏:‏ يدخل فيه العبيد، فيجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها، لأن مذهب الشافعي أنه مَحْرم لها، وعندنا انه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفيها، وقد نص أحمد على انه لايجوز أن ينظر إلى شعر مولاته‏.‏

قال القاضي أبو يعلى‏:‏ وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء، لأن الذين تقدم ذكرهم احرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو التابعين‏}‏ وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، او لأنهم نشؤوا فيهم‏.‏

وللمفسرين في هذا التابع ستة اقوال‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال مجاهد‏:‏ هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء‏.‏

والثاني‏:‏ أنه العنين، قاله عكرمة‏.‏

والثالث‏:‏ المخنث كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ أنه الشيخ الفاني‏.‏

والخامس‏:‏ أنه الخادم، قالهما ابن السائب‏.‏

والسادس‏:‏ أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من أصحابنا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏غير‏}‏ صفة للتابعين‏.‏ وفيه دليل على ان قوله‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ معناه‏:‏ ‏{‏غير أولي الإربة من الرجال‏}‏ والمعنى‏:‏ ولا يبدين زينتهن لمماليكهن ولا لتُبَّاعِهن إلا أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة‏:‏ الحاجة ومعناه‏:‏ غير ذوي الحاجات إلى النساء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو الطِّفْل‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يريد ألأطفال، بدليل قوله ‏{‏لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ أي‏:‏ لم يعرفوها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن‏}‏ أي‏:‏ باحدى الرجلين على الأخرى، ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أن عليها خلخالين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْكِحُوا الأيامى‏}‏ وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال‏:‏ رجل أيِّم وامرأة أيِّم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بِكر وامرأة بِكر‏:‏ إِذا لم يتزوجا، وامرأة ثيِّب ورجل ثيِّب‏:‏ إِذا كانا قد تزوجا، ‏{‏والصالِحين من عبادكم‏}‏ أي‏:‏ من عبيدكم، يقال‏:‏ عَبْد وعِبَاد وعَبِيد، كما يقال‏:‏ كَلْب وكِلاَب وكَلِيب‏.‏ وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ‏:‏ ‏{‏من عَبيدكم‏}‏‏.‏ قال المفسرون‏:‏ والمراد بالآية الندب‏.‏ ومعنى الصلاح هاهنا‏:‏ الإِيمان‏.‏ والمراد بالعباد‏:‏ المملوكون، فالمعنى‏:‏ زوِّجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم‏.‏ ثم رجع إِلى الأحرار فقال‏:‏ ‏{‏إِن يكونوا فقراء يُغْنِهِمُ الله من فضله‏}‏ فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليَسْتَعْفِف الذين لا يجدون نكاحاً‏}‏ أي‏:‏ وليْطلب العِفَّة عن الزنا والحرام مَن لايجد ماينكح به من صداق ونفقة‏.‏ وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يامعشر الشباب عليكم بالباءة، فمن لم يجد فعليه بالصيام فانه له وجاء»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يبتغون الكتاب‏}‏ أي‏:‏ يطلبون المكاتبة من العبيد والإِماء على أنفسهم، ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه مندوب إِليه، قاله الجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار‏.‏ وذكر المفسرون‏:‏ أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزَّى يقال له‏:‏ صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن علمتم فيهم خيراً‏}‏ فيه ستة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِن علمتم لهم مالاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ إِن علمتم لهم حيلة، يعني‏:‏ الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ إِن علمتم فيهم ديناً، قاله الحسن‏.‏

والرابع‏:‏ إِن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير‏.‏

والخامس‏:‏ إِن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني‏.‏

والسادس‏:‏ إِن علمتم لهم صدقاً ووفاءً، قاله إِبراهيم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتُوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا ان يعطوا المكاتبين من سهم الرِّقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ هو سهم الرقاب يُعطى منه المكاتَبون‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خطاب للسادة، أُمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً‏.‏ قال أحمد والشافعي‏:‏ الإِيتاء واجب، وقدَّره أحمد بربع مال الكتابة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ليس بمقدَّر‏.‏ وقال أبو حنيفة ومالك‏:‏ لايجب الإِيتاء‏.‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلاماً له يقال له‏:‏ أبو أُمية، فجاءه بنجمه حين حلَّ؛ فقال‏:‏ اذهب يا أبا أُمية فاستعن به في مكاتَبتك، قال‏:‏ ياأمير المؤمنين لو أخَّرْتَه حتى يكون في آخر النجوم، فقال‏:‏ يا أبا أُمية‏:‏ إِني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏، قال عكرمة‏:‏ وكان ذلك أول نجم أُدِّي في الإِسلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُكْرِهوا فتياتكم على البِغاء‏}‏ روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سفيان عن جابر، قال‏:‏ كان عبد الله بن أٌبيّ يقول لجارية له‏:‏ اذهبي فابغينا شيئاً، فنزلت هذه الآية‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وكان له جاريتان، مُعاذة ومُسَيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إِماءهم، فلما جاء الإِسلام قالت معاذة لمسيكة‏:‏ إِن هذا الأمر الذي نحن فيه إِن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإِن كان شرّاً فقد آن لنا أن نَدَعه، فنزلت هذه الآية‏.‏ وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوارٍ كُنَّ لعبد الله بن أُبيّ، مُعاذة، ومُسَيكة، وأُميمة، وقُتيلة، وعمرة، وأروى‏.‏ فأما الفتيات، فهن الإِماء‏.‏ والبِغاء‏:‏ الزنا‏.‏ والتحصن‏:‏ التعفف‏.‏

واختلفوا في معنى ‏{‏إِن أَرَدْنَ تحصُّناً‏}‏ على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإِن لم يكن شرطاً فيه‏.‏

والثاني‏:‏ إِنه إِنما شرط إِرادة التحصُّن، لأن الإِكراه لا يُتَصور إِلا عند إِرادة التحصُّن، فأما إِذا لم ترد المرأة التحصُّن، فانها تبغي بالطبع‏.‏

والثالث‏:‏ أن «إِنْ» بمعنى «إِذ»، ومثله‏:‏ ‏{‏وذروا ما بقي من الربا إِن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ ‏{‏وأنتم الأعلون إِن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏‏.‏

والرابع‏:‏ أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره‏:‏ ‏{‏وأنكحوا الأيامى‏}‏ إِلى قوله ‏{‏وإِمائكم‏}‏ ‏{‏إِن أردن تحصناً‏}‏ ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء ‏{‏لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‏}‏ وهو كسبهن وبيع أولادهن ‏{‏ومن يُكْرِهْهُنَّ فَان الله من بعد إِكراههن غفور‏}‏ للمُكْرَهات ‏{‏رحيم‏}‏ وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد‏:‏ ‏{‏من بعد إِكراههن لهن غفور رحيم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ‏}‏ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان‏:‏ ‏{‏مبيِّنات‏}‏ بكسر الياء في الموضعين في هذه السورة ‏[‏النور‏:‏ 34، 46‏]‏، وآخر سورة ‏[‏الطلاق‏:‏ 11‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَثَلاً من الذين خَلَوا‏}‏ أي‏:‏ شَبَهاً من حالهم بحالكم أيها المكذِّبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذِّبين قبلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللّهُ نُور السموات والأرض‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ هادي أهل السموات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أنس بن مالك، وبيان هذا أن النُّور في اللغة‏:‏ الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مُبْصَراتها، فورد النُّور مضافاً إِلى الله تعالى، لأنه هو الذي يَهْدي المؤمنين ويبيِّن لهم ما يهتدون به، والخلائق بنوره يهتدون‏.‏

والثاني‏:‏ مدبِّر السموات والأرض، قاله مجاهد، والزجاج‏.‏ وقرأ أُبيّ ابن كعب، وأبو المتوكل، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏اللّهُ نَوَّرَ‏}‏ بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء ‏{‏السمواتِ‏}‏ بالخفض ‏{‏والأرضَ‏}‏ بالنصب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَل نُوره‏}‏ في هاء الكناية أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها ترجع إلى الله عز وجل، قال ابن عباس‏:‏ مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره‏:‏ مَثَل نُور المؤمن، قاله أُبيّ ابن كعب‏.‏ وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن‏:‏ ‏{‏مثل نُور مَنْ آمن به‏}‏‏.‏

والثالث‏:‏ أنها ترجع إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، قاله كعب‏.‏

والرابع‏:‏ أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان‏.‏

فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب، والمصباح‏:‏ الضوء، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها القنديل، والمصباح‏:‏ الفتيلة، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ أنها الكوّة التي لا منفذ لها، والمصباح‏:‏ السراج، قاله كعب، وكذلك قال الفراء‏:‏ المشكاة‏:‏ الكوّة التي ليست بنافذة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ المشكاة‏:‏ الكوّة بلسان الحبشة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هي من كلام العرب، والمصباح‏:‏ السراج وإِنما ذكر الزُّجاجة، لأن النُّور في الزُّجاج أشد ضوءاً منه في غيره‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏في زَجاجة الزَّجاجة‏}‏ بفتح الزاي فيهما‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن يعمر‏:‏ بكسر الزاي فيهما، قال بعض أهل المعاني‏:‏ معنى الآية‏:‏ كمَثَل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب‏.‏

فأما الدُّرِّيّ، فقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبان عن عاصم ‏{‏دِرِّيءٌ‏}‏ بكسر الدال وتخفيف الياء ممدوداً مهموزاً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ المعنى على هذا‏:‏ إِنه من الكواكب الدَّراريء، وهي اللاتي يَدْرأنْ عليك، أي‏:‏ يطلُعن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو مأخوذ من درأ يدرأ‏:‏ إِذا اندفع منقضّاً، فتضاعف نوره، يقال‏:‏ تدارأ الرجلان‏:‏ إِذا تدافعا‏.‏ وروى المفضَّل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مدٍّ، وهي قراءة عبد الله بن عمر، والزهري‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏دُرِّيٌّ‏}‏ بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مدٍّ ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس، وعاصم، الجحدري‏:‏ ‏{‏دَرِيءُ‏}‏ بفتح الدال وكسر الراء ممدوداً مهموزاً، وقرأ أُبيّ ابن كعب، وسعيد بن المسيب، وقتادة‏:‏ بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مدٍّ ولا همز‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر‏:‏ بفتح الدال وكسر الراء مهموزاً مقصوراً‏.‏

قال الزجاج‏:‏ الدُّرِّيّ‏:‏ منسوب إِلى أنه كالدُّرّ في صفائه وحسنه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الدُّرِّيءُ‏:‏ الذي يشبه الدُّرّ، والدِّرِّيءُ‏:‏ جارٍ، والدَّرِّيءُ‏:‏ يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، والوليد بن عتبة عن ابن عامر‏:‏ بضم الدال وتخفيف الياء مع إِثبات الهمزة والمدِّ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فالنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا؛ وقال الفراء‏:‏ ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس في الكلام «فُعِّيل» إِلا أعجمي، مثل مُرِّيق، وما أشبهه‏.‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي‏:‏ المُرّيق‏:‏ العُصْفُر، أعجمي معرَّب، وليس في كلامهم اسم على زِنة فُعِّيْل‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وقد حكى سيبويه عن أبي الخطّاب‏:‏ كوكب دُرِّيء‏:‏ من الصفات، ومن الأسماء‏:‏ المُرِّيق‏:‏ العُصْفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَوَقَّدَ‏}‏ قرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏:‏ بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدَّال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم‏:‏ ‏{‏يُوقَدُ‏}‏ بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضاً‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏تُوقَد‏}‏ بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج‏:‏ والمقصود‏:‏ مصباح الزجاجة، فحذف المضاف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من شجرة‏}‏ أي‏:‏ من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلُّك على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء‏}‏؛ والمراد بالشجرة هاهنا‏:‏ شجرة الزيتون، وبَرَكَتُها من وجوه، فانها تجمع الأُدْم والدُهن والوقود، فيوقد بحطب الزيتون، ويُغسَل برمادة الإِبريسم، ويُستخرج دُهنه أسهل استخراج، ويورِق غصنه من أوله إِلى آخره‏.‏ وإِنما خُصَّت بالذِّكْر هاهنا دون غيرها، لأن دُهنها أصفى وأضوأ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أُبيّ ابن كعب، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنها في الصحراء لا يُظِلُّها جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، فهو أجود لزيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنها من شجر الجنة، لا من شجرة الدُّنيا، قاله الحسن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد زيتها يُضيء‏}‏ أي‏:‏ يكاد من صفائه يُضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به‏.‏ ‏{‏نُور على نُور‏}‏ قال مجاهد‏:‏ النار على الزيت‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ المصباح نور، والزجاجة نور‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ نور النار، ونور الزيت، ونور الزجاجة، ‏{‏يهدي الله لنوره‏}‏ فيه أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ لنور القرآن‏.‏

والثاني‏:‏ لنور الإِيمان‏.‏

والثالث‏:‏ لنور محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والرابع‏:‏ لدينه الإِسلام‏.‏

فصل

فأما وجه هذا المَثَل، ففيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه شبَّه نور محمد صلى الله عليه وسلم بالمصباح النيِّر؛ فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصباح النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إِبراهيم عليه السلام، سماه شجرة مباركة، لأن أكثر الأنبياء من صُلْبه‏.‏

‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏ لايهودي ولا نصراني، يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتبيَّن للناس أنه نبيٌّ ولو لم يتكلَّم‏.‏ وقال القرظي‏:‏ المشكاة‏:‏ إِبراهيم، والزجاجة‏:‏ إِسماعيل، والمصباح‏:‏ محمد، صلى الله عليه وعليهم وسلَّم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ شبّه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزجاجة، ومحمداً صلى الله عليه وسلم بالمصباح‏.‏

والثاني‏:‏ أنه شبّه نور الإِيمان في قلب المؤمن بالمصباح، فالمشكاة‏:‏ قلبه، والمصباح‏:‏ نور الإِيمان فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المشكاة‏:‏ صدره، والمصباح‏:‏ القرآن والإِيمان اللَّذان في صدره، والزجاجة‏:‏ قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإِيمان كوكب مضيء تَوَقَّد من شجرة، وهي الإِخلاص، فمثل الإِخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن، فان أُعطي شكر، وإِن ابتُلي صبر، وإِن قال صدق، وإِن حكم عدل، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فاذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسَّه النار، فاذا مسَّته اشتد نُوره، فالمؤمن كلامه نُور، وعمله نُور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلى نور يوم القيامة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه شبّه القرآن بالمصباح يُستضَاء به ولا ينقص، والزجاجة‏:‏ قلب المؤمن، والمشكاة‏:‏ لسانه وفمه، والشجرة المباركة‏:‏ شجرة الوحي، تكاد حُجج القرآن تتضح وإِن لم تُقرأ‏.‏ وقيل‏:‏ تكادُ حجج الله تضيء لمن فكَّر فيها وتدبَّرها ولو لم ينزل القرآن، ‏{‏نُور على نُور‏}‏ أي‏:‏ القرآن نُور من الله لخلقه مع ماقد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَضْرِبُ اللّهُ الأمثال‏}‏ أي‏:‏ ويبيِّن الله الأشباه للناس تقريباً إِلى الأفهام وتسهيلاً لسبل الإِدراك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في بُيُوتٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ «في» مِن صلةِ قوله‏:‏ ‏{‏كمشكاة‏}‏، فالمعنى‏:‏ كمشكاة في بيوت؛ ويجوز أن تكون متصلة بقوله‏:‏ ‏{‏يسبِّح له فيها‏}‏ فتكون فيها تكريراً على التوكيد؛ والمعنى‏:‏ يسبِّح لله رجال في بيوت‏.‏

فان قيل‏:‏ المشكاة إِنما تكون في بيت واحد، فكيف قال‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه من الخطاب المتلوِّن الذي يُفتح بالتوحيد ويُختم بالجمع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبيُّ إِذا طلَّقتم النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه راجع إِلى كل واحد من البيوت، فالمعنى‏:‏ في كل بيت مشكاة‏.‏ وللمفسرين في المراد بالبيوت هاهنا ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنها المساجد، قاله ابن عباس، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ بيت المقدس، قاله الحسن‏.‏

فأما ‏{‏أَذِنَ‏}‏ فمعناه‏:‏ أَمَر‏.‏ وفي معنى ‏{‏أن تُرْفَع‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تعظَّم، قاله الحسن، والضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ أن تُبْنَى، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويُذْكَرَ فيها اسمُه‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ توحيده، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يُتلى فيها كتابُه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبّح‏}‏ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏يُسَبِّح‏}‏ بكسر الباء؛ وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ بفتحها‏.‏ وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ‏}‏ بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يُسَبِّح له فيها‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه الصلاة‏.‏ ثم في صلاة الغُدُوِّ قولان‏.‏

احدهما‏:‏ أنها صلاة الفجر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ صلاة الضحى، روى ابن أبي مُلَيكة عن ابن عباس قال‏:‏ إِن صلاة الضحى لفي كتاب الله، وما يغوص عليها إِلاغوّاص، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏يُسَبِّح له فيها بالغدوّ والآصال‏}‏‏.‏ وفي صلاة الآصال قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب‏.‏

والثاني‏:‏ صلاة العصر، قاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه التسبيح المعروف، ذكره بعض المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجال لا تُلْهِيهم‏}‏ أي‏:‏ لا تَشْغَلُهم ‏{‏تجارة ولا بيع‏}‏ قال ابن السائب‏:‏ التُّجَّار‏:‏ الجلاّبون، والباعة‏:‏ المقيمون‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ التجارة هاهنا بمعنى الشراء‏.‏ وفي المراد بذِكْر الله ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس، وعطاء‏.‏ وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر‏:‏ فيهم نزلت ‏{‏رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكْر الله‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ عن القيام بحق الله، قاله قتادة‏.‏

والثالث‏:‏ عن ذِكْر الله باللسان، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِقامِ الصلاة‏}‏ أي‏:‏ أداؤها لوقتها وإِتمامها‏.‏

فان قيل‏:‏ إِذا كان المراد بذِكْر الله الصلاة، فما معنى إِعادتها‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه بيَّن أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار‏}‏ في معناه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور، ازداد بصيرة برؤية ما وُعِد به؛ ومن كان قلبه على غير ذلك، رأى ما يوقِن معه بأمر القيامة، قاله الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أن القلوب تتقلَّب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلَّب، تنظر من أين يؤتَون كتبهم، أَمِنْ قِبَل اليمين، أم مِنْ قِبَل الشمال‏؟‏ وأي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين، أم ذات الشمال‏؟‏ قاله ابن جرير‏.‏

والثالث‏:‏ تتقلَّب القلوب فتبلغ إِلى الحناجر، وتتقلَّب الأبصار إِلى الزَّرَق بعد الكَحَل والعمى بَعْدَ النَّظر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَهُم‏}‏ المعنى‏:‏ يسبِّحون الله ليَجزيَهم ‏{‏أَحْسَنَ ما عملوا‏}‏ أي‏:‏ ليجزيهم بحسناتهم، فأما مساوئهم فلا يَجزيهم بها ‏{‏ويَزِيدَهم من فضله‏}‏ مالم يستحقُّوه بأعمالهم ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ قد شرحناه في ‏[‏آل عمران‏:‏ 27‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ثم ضرب الله مثلاً للكفار فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهُم كسراب‏}‏ قال ابن قتيبة‏:‏ السراب‏:‏ ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل‏:‏ ما رأيته في أول النهار وآخره، وهو يرفع كل شيء، والقِيعة والقاع واحد‏.‏ وقرأ أُبيُّ ابن كعب، وعاصم الجحدري، وابن السميفع‏:‏ ‏{‏بِقِيعات‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القيعة‏:‏ جمع قاع، مثل جارٍ وجيرة، والقيعة والقاع‏:‏ ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماءً يجري، وذلك هو السراب، والآل مثل السراب، إِلا أنه يرتفع وقت الضحى- كالماء- بين السماء والأرض، يحسبه الظمآن وهو الشديد العطش ماءً، حتى إِذا جاء إٍلى موضع السراب رأى أرضاً لا ماء فيها، فأعلم الله أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله- كظن الذي يظن السراب ماءً- وعملُه قد حبط‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجد اللّهَ عنده‏}‏ أي‏:‏ قَدِم على الله ‏{‏فوفّاه حسابَه‏}‏ أي‏:‏ جازاه بعمله؛ وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏ مفسَّر في ‏[‏البقرة‏:‏ 202‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كظلمات‏}‏ في هذا المثل قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لعمل الكافر، قاله الجمهور، واختاره الزجاج‏.‏

والثاني‏:‏ أنه مَثَل لقلب الكافر في أنه لا يَعْقِل ولا يُبْصِر، قاله الفراء‏.‏ فأما اللُّجِّيّ، فهو العظيم اللُّجَّة، وهو العميق ‏{‏يغشاه‏}‏ أي‏:‏ يعلو ذلك البحرَ ‏{‏موجٌ من فوقه‏}‏ أي‏:‏ من فوق الموج موج، والمعنى‏:‏ يتبع الموج موج، حتى كان بعضه فوق بعض، ‏{‏من فوقه‏}‏ أي‏:‏ من فوق ذلك الموج ‏{‏سحاب‏}‏‏.‏

ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏ظلماتٌ‏}‏ يعني‏:‏ ظلمة البحر، وظلمة الموج ‏[‏الأول، وظلمة الموج‏]‏ الذي فوق الموج، وظلمة السحاب‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن محيصن‏:‏ ‏{‏سحابُ ظلماتٍ‏}‏ مضافاً ‏{‏إِذا أخرج يده‏}‏ يعني‏:‏ إِذا أخرجها مُخرِجٌ، ‏{‏لم يكد يراها‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يرها، قاله الحسن، واختاره الزجاج‏.‏ قال‏:‏ لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكفّ؛ وكذلك قال ابن الأنباري‏:‏ معناه‏:‏ لم يرها البتَّة، لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة، فبان بهذا الكلام أن «يَكَد» زائدة للتوكيد، بمنزلة «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏عمَّا قليلٍ ليُصْبِحُنَّ نادمِين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لم يرها إِلا بعد الجهد، قاله المبرِّد‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهذا كما تقول‏:‏ ما كدت أبلغ إِليك، وقد بلغتَ، قال الفراء‏:‏ وهذا وجه العربية‏.‏

فصل

فأما وجه المَثَل، فقال المفسرون‏:‏ لمّا ضَرب اللّهُ للمؤمن مَثَلاً بالنُّور، ضَرب للكافر هذا المثل بالظلمات؛ والمعنى‏:‏ أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشدٍ‏.‏ وقيل‏:‏ الظُّلمات‏:‏ ظُلمة الشِّرك وظُلمة المعاصي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ضربَ الظلمات مثلاً لعمله، والبحر اللُّجِّيّ لقلبه، والموج لِما يغشى قلبه من الشِّرك والجهل والحيرة، والسحاب للرَّيْن، والخَتْم على قلبه، فكلامه ظُلمة، وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة، ومخرجه ظُلمة، ومصيره إِلى الظُّلمات يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يَجْعَلِ اللّهُ له نُوراً‏}‏ فيه قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ دِيناً وإِيماناً، قاله ابن عباس، والسدي‏.‏

والثاني‏:‏ هداية، قاله الزجاج‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تَرَ أنَّ الله يُزْجِي سحاباً‏}‏ أي‏:‏ يسوقه ‏{‏ثم يؤلِّف بينه‏}‏ أي‏:‏ يضم بعضه إِلى بعض، فيجعل القِطَع المتفرِّقة قطعة واحدة‏.‏ والسحاب لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏يؤلِّف بينه ثم يجعلُه رُكاماً‏}‏ أي‏:‏ يجعل بعض السحاب فوق بعض ‏{‏فترى الوَدْقَ‏}‏ وهو المطر‏.‏ قال الليث‏:‏ الوَدْقُ‏:‏ المطر كُلُّه شديدُه وهيِّنُه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن خِلاله‏}‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك‏:‏ ‏{‏من خَلَلهِ‏}‏‏.‏ والخِلال‏:‏ جمع خَلَل، مثل‏:‏ جبال وجبل‏.‏ ‏{‏وينزِّل من السماء‏}‏ مفعول الإِنزال محذوف، تقديره‏:‏ وينزِّل من السماء من جبال فيها من بَرَدٍ بَرَداً، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه‏.‏ و«مِنْ» الأولى، لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإِنزال من السماء، والثانية، للتبعيض، لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال، والثالثة، لتبيين الجنس، لأن جنس تلك ‏[‏الجبال‏]‏ جنس البَرَد؛ قال المفسرون‏:‏ وهي جبال في السماء مخلوقة من بَرَد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الكلام‏:‏ وينزِّل من السماء من جبال بَرَد فيها، كما تقول‏:‏ هذا خاتم في يدي من حديد، المعنى‏:‏ هذا خاتم حديد في يدي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيُصيب به‏}‏ أي‏:‏ بالبَرَد ‏{‏من يشاء‏}‏ فيضرُّه في زرعه وثمره‏.‏ والسنا‏:‏ الضوء، ‏{‏يَذْهَبُ‏}‏ وقرأ مجاهد، وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏يُذْهِبُ‏}‏ بضم الياء وكسر الهاء‏.‏ ‏{‏يقلِّب اللّهُ الليل والنهار‏}‏ أي‏:‏ يأتي بهذا، ويذهب بهذا، ‏{‏إِنَّ في ذلك‏}‏ التقلُّب ‏{‏لعبرةً لأولي الأبصار‏}‏ أي‏:‏ دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانية الله وقدرته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 52‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون آمَنَّا بالله‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت في رجل من المنافقين يقال له‏:‏ بشر كان بينه وبين يهوديّ حكومة، فدعا اليهوديُّ المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، فقال المنافق لليهودي‏:‏ إِن محمداً يَحِيف علينا، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يتولَّى فريق منهم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏مِنْ بَعْدِ ذلك‏}‏ أي‏:‏ من بعد قولهم‏:‏ آمَنَّا ‏{‏وما أولئك‏}‏ يعني‏:‏ المُعْرِضين عن حُكم الله ورسوله ‏{‏بالمؤمنين‏.‏ وإِذا دُعُوا إِلى الله‏}‏ أي‏:‏ إِلى كتابه ‏{‏ورسولهِ ليحكُم بينهم‏}‏ الرسول ‏{‏إِذا فريق منهم مُعْرِضُون‏}‏ ومعنى الكلام‏:‏ أنهم كانوا يُعْرِضُون عن حكم الرسول عليهم، لعِلمهم أنَّه يحكُم بالحق؛ وإِن كان الحق لهم على غيرهم، أسرعوا إِلى حكمه مذعنين، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والإِذعان في اللغة‏:‏ الإِسراع مع الطاعة، تقول‏:‏ قد أذعن لي، أي‏:‏ قد طاوعني لِما كنتُ ألتمسه منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفي قلوبهم مرض‏}‏ أي‏:‏ كفر ‏{‏أَمِ ارتابوا‏}‏ أي‏:‏ شكُّوا في القرآن‏؟‏ وهذا استفهام ذمّ وتوبيخ، والمعنى‏:‏ إِنهم كذلك، وإِنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمِّهم، كما قال جرير في المدح‏:‏

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا *** ‏[‏وأندى العالَمِينَ بُطُونَ راحِ‏]‏

أي‏:‏ أنتم كذلك‏.‏ فأما الحَيْف، فهو‏:‏ المَيْل في الحكم؛ يقال‏:‏ حاف في قضيَّته، أي‏:‏ جار، ‏{‏بل أولئك هم الظالمون‏}‏ أي‏:‏ لا يَظْلِمُ اللّهُ ورسولُه أحداً، بل هم الظالمون لأنفسهم بالكفر والإِعراض عن حُكم الرسول‏.‏

ثم نعت المؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏إِنما كان قولَ المؤمنين‏}‏ قال الفراء‏:‏ ليس هذا بخبرٍ ماضٍ، وإِنما المعنى‏:‏ إِنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إِذا دعوا أن يقولوا سمعنا‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏إِنما كان قولُ المؤمنين‏}‏ بضم اللام‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وعاصم الجحدري، وابن أبي ‏[‏ليلى‏]‏‏:‏ ‏{‏ليُحكم بينهم‏}‏ برفع الياء وفتح الكاف‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ والمعنى‏:‏ سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره، وإِن كان ذلك فيما يكرهونه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيخْشَ الله‏}‏ أي‏:‏ فيما مضى من ذنوبه ‏{‏ويَتَّقْهِ‏}‏ فيما بعدُ أن يعصيه‏.‏ وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وورش عن نافع‏:‏ ‏{‏ويَتَّقْهي‏}‏ موصولة بياء‏.‏ وروى قالون عن نافع‏:‏ ‏{‏ويَتَّقْهِ فأولئك‏}‏ بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏{‏ويَتَّقِهْ‏}‏ جزماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَقسَموا بالله‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لمّا نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى حكمك‏؟‏‏!‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وقد بيَّنَّا معنى ‏{‏جَهْدَ أيمانهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 53‏]‏ ‏{‏لئن أمرتَهم لَيَخْرُجُنَّ‏}‏ من أموالهم وديارهم، وقيل‏:‏ ليخرجُنّ إِلى الجهاد، ‏{‏قل لا تُقْسِموا‏}‏ هذا تمام الكلام؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏طاعةٌ معروفةٌ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أَمْثَلُ من قَسَمِكم الذي لا تصدُقون فيه طاعةٌ معروفة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وبعض النحويين يقول‏:‏ الضمير فيها‏:‏ لتكن منكم طاعة معروفة، أي‏:‏ صحيحة لا نِفاق فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فان تَوَلَّوا‏}‏ هذا خطاب لهم، والمعنى‏:‏ فان تتولَّوا، فحذف إِحدى التاءين، ومعنى التولِّي‏:‏ الإِعراض عن طاعة الله ورسوله، ‏{‏فإنما عليه‏}‏ يعني‏:‏ الرسول، ‏{‏ما حُمِّل‏}‏ من التبليغ ‏{‏وعليكم ما حُمِّلْتُم‏}‏ من الطاعة؛ وذكر بعض المفسرين أن هذا منسوح بآية السيف، وليس بصحيح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِن تُطيعوه‏}‏ يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏تهتدوا‏}‏، وكان بعض السلف يقول‏:‏ مَنْ أمَّر السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، لقوله‏:‏ ‏{‏وإِن تُطيعوه تهتدوا‏}‏‏.‏